دراسات إسلامية
مفاهيم
في ضوء سُنة اللّه في الخلق
(2/3)
بقلم
: الدكتور أحمد محمد كنعان
وقد اختلف المفسرون في بيان حقيقة هذا الكتاب، فقال
بعضهم: إنه التوراة. وقال بعضهم الآخر: إن الذي أحضر العرش كان يعرف اسم الله
الأعظم. وقال آخرون أقوالاً غير هذا وذاك دون تعليل مستيقن، ونحن نرى أن الأمر
أقرب وأظهر من ذلك كله، حين ننظر إليه بمنظار الواقع الملموس.. فكم في هذا الكون
الرحيب من أسرار نجهلها.. وكم فيه من سنن لا ندركها.. وحينما يشاء الله عزوجل أن
يكشف شيئًا من ذلك، فإنه يهدي من يشاء إلى (السر)، ويرشده إلى فهم بعض السنن
الكونية التي يحصل من تسخيرها ما يبدو لنا – نحن الجاهلين بذلك السر – أنه خارج عن
المألوف، خارق للعادة !
وعلى هذه الشاكلة يمكن أن نفهم كيف حقق ذلك
العبد (الذي عنده علم من الكتاب) تلك الخارقة العظيمة في نقل عرش الملكة آلاف
الأميال خلال لحظات خاطفة!!
واليوم .. نحن نعيش هذه الثورة العلمية،
التي تطلع علينا كل صباح باختراعات وإنجازات مذهلة، نجد أنفسنا وقد أصبحنا أقرب
إلى فهم تلك الواقعة التي حدثنا القرآن عنها، كما أصبحنا ندرك إدراكاً مباشرًا
لماذا ربطها بقضية (العلم)، وبخاصة أن العلم الحديث قد أتاح لنا تحقيق منجزات
تقارب تلك الخارقة في عظمتها، وذلك بفضل الله الذي هدانا إلى كشف الكثير من السنن،
التي مهدت لنا صنع الطائرات النفاثة، والمركبات الفضائية، القادرة على الطيران
بسرعات تتجاوز سرعة الصوت بمرات ومرات!
وقد تناقلت وكالات الأنباء مؤخرًا أن
الولايات المتحدة الأمريكية بدأت فعلاً بتنفيذ مشروعها الطموح لإنتاج (قطار الشرق
السريع الجديد) وهو في الواقع ليس قطارًا بل طائرة صاروخية تفوق سرعتها سرعة الصوت
بنحو (25 مرة!) تستطيع مثلاً قطع المسافة القصية ما بين (لندن) في إنجلترا
و(سيدني) في أستراليا بأقل من (45 دقيقة!) وهذه المسافة تزيد أضعافًا مضاعفة عن
المسافة التي نقل عبرها عرش بلقيس!!
وهذا يعني أن الإنسان – بما حصله حتى الآن
من علم بسنن الطيران – قد تجاوز سرعة الجن ﴿أَنَا آتِيْكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ
تَقُوْمَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ وسوف يواصل الإنسان – بإذن الله – رحلة بحثه هذه
حتى يقترب أكثر فأكثر من تحقيق السرعة القرآنية الأخرى ﴿أَنَا آتِيْكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ التي بدأنا نلمح بعض تباشيرها
فيما توصل إليه حتى الآن، من اختراعات فذة في مجالات الاتصال اللاسلكي، إذ أصبح
التلفزيون مثلاً قادرًا على نقل الأحداث إلينا لحظة حدوثها في أية بقعة من بقاع
الأرض، أو الفضاء البعيد.. كما أن وسائل الاتصال الإلكتروني يسرت لنا اليوم نقل
الرسائل المكتوبة عبر الهاتف فيما يعرف بـ"الفاكسميلي" وهذه كلها بعض
تباشير تحقيقنا لتلك السرعة القرآنية التي أشرنا إليها!.
* ونعود من جديد إلى رحاب القرآن الكريم،
الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، لكي نتوقف عند هذا البيان المعجز في قوله
تعالى: ﴿قَالَ الَّذِيْ عِنْدَه عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيْكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ (النمل 40) فإن هذه الآية لم
تبين لنا شخصية ذلك الذي (عنده علم من الكتاب) أَبَشَرٌ هو أم جِنِّي؟! وهي لفتة
جديرة بالتأمل، وأن نقف عندها طويلاً، ونجعلها مع الإشارة السابقة إلى (الكتاب.
بهذا اللفظ المعرف المبهم!) دليلاً قويًا على وظيفة العلم في عملية التسخير.. وكأن
الآية الكريمة تريد أن توحي لنا بأن العلم ما هو إلا (كتاب) مبثوثة حروفه وكلماته
في أرجاء هذا الكون الفسيح، وما على الذين يريدون الاستفادة مما في هذا الكتاب إلا
أن يحسنوا القراءة فيه.
وهم
– بطبيعة الحال – لن يحسنوا القراءة أبدًا إلا أن يسيروا في الأرض بقلوب مبصرة،
ونفوس تواقة للمعرفة، على هدي التوجيه الرباني الحكيم ﴿قُلِ انْظُرُوْا
مَاذَا فِيْ السَّمـٰـوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (يونس 101)، لكي يتفكروا في
السنن التي تحكم هذا الوجود، ويستجلوا حقيقتها في الآفاق وفي أنفسهم، ثم يعملوا
على تسخيرها كما أمرهم بذلك رب العزة سبحانه! وبهذا المنهج يمكن أن نهتدي – بإذن
الله – إلى السنن التي على نهجها تسير الحياة .. وهذا هو الطريق الصحيح للوصول إلى
(العلم) الحقيقي الذي سوف يحقق لنا في المستقبل ما نراه اليوم مستحيلاً!!
3-
علم الغيب
*
الغيب : خلاف الشهادة .
*
وكل ما غاب عن إدراكنا فهو غيب بالنسبة لنا.
*
والغيب غيبان :
أ
– (غيب مطلق) ويشمل كل المغيبات المتعلقة بالعالم الآخر، وهذا النوع من الغيب يمكن
أن نعلمه علمًا يقينيًا عن طريق واحد لا ثاني له، وهو طريق الوحي الثابت الصحيح .
ب
– (غيب نسبي) ويشمل المغيبات في عالم الشهادة التي تتعلق بالماضي أو بالحاضر، وهي
مغيبة عنا إما بسبب وجود مانع يحول دون علمنا بها، أو لأن الوسائل التي بين أيدينا
لا تسعفنا في الكشف عنها، وهذا النوع من الغيب يمكن أن نتوصل لمعرفته بصورة يقينية
قاطعة، بوسائلنا الخاصة.
ومن
المعروف أن الإنسان تطلع منذ وقت مبكر من تاريخه إلى عالم الغيب، وتثبت سجلات
التاريخ أن الإنسان قام بمحاولات كثيرة جدًا لكي يستشف آفاق المستقبل. وتشير
الآثار القديمة، وبعض الأساطير والحكايات إلى تلك المحاولات، التي لانشك أبدًا
أنها باءت بالفشل لأنها اعتمدت على الظن أو الخيال، ولم تلتفت إلى دور العلم في
هذه المسألة.
ولقد
سبق الحديث عن أن العلم يعني المعرفة اليقينية بالسنن الربانية، التي تحكم ظاهرة
من الظواهر الكونية، وأن السنن ذاتها تقوم على أساس أولي من ارتباط العلة
بالمعلول، أو ارتباط النتيجة بالسبب ارتباطاً لازمًا، وهذا يعني أن اجتماع أسباب
معينة يؤدي إلى نتيجة معينة بإذن الله .. وانطلاقًا من هذه الحقيقة، يمكن أن يكتسب
الإنسان قدرة ما على التنبؤ بأمور مغيبة عنه، فعندما تتوافر لديه مجموعة من
القرائن أو المقومات أو الأسباب، فإنه يمكن أن يتنبأ بالمغيبات، التي ترتبط بها من
النتائج، كأن يتنبأ مثلاً بهطول المطر عندما تتراكم الغيوم في السماء، وتتهيأ
الظروف الجوية المواتية، أو يتنبأ بحدوث زلزال عندما تشير أجهزة الرصد الجيولوجية
إلى حدوث تحركات في طبقات الأرض، أو يتنبأ بأصابة إنسان ما بمرض معين، بعد تعرضه
للعدوى من مصدر معروف.. هكذا .
إلا
أن تنبؤ الإنسان على هذه الصورة يبقى ناقصًا لسببين اثنين:
أ
– لأن هذا التنبؤ قابل للخطأ والصواب، بمقدار ما يكون الإنسان قد عرف من شروط
وظروف الظاهرة التي يحاول التنبؤ بما وراءها.
ب
– لأن هذا التنبؤ ليس أوليًّا، أي أن الإنسان لايعلم الغيب علمًا أوليًّا بلا
مقدمات، بل هو يتنبأ اعتمادًا على أساس ارتباط النتيجة بالسبب، ولهذا تبقى نبوءته
ناقصة.. فهي ليست كعلم الله بالغيب، لأن علم الله عز وجل هو علم أولي تام لا
يدانيه الخطأ أبدًا، ولا يقف دونه مانع، فهو علم غير مرتبط بزمان ولا مكان ولا
أسباب، فالله سبحانه يعلم ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون ﴿وَعِنْدَهُ
مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلاّ هُو، وَيَعْلَمُ ما فِي البَرِّ
والبَحْرِ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِيْ
ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاّ في كِتابٍ مُبينٍ﴾
(الأنعام – 59)، ولا عجب، فالله عز وجل هو الذي خلق الخلائق كلها، وقدر الأسباب
والنتائج، وأحاط بكل شيء علمًا ﴿عَالِم الغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقَالُ ذرّةٍ في السَّمواتِ وَلاَ فِيْ الأَرْضِ ولا أَصْغر مِنْ ذٰلِكَ
ولا أَكْبر إِلاّ في كتابٍ مُبينٍ﴾ (سبأ – 3).
ويرجع
اهتمامنا بالبحث في العلاقة ما بين سنن الله في الخلق وبين معرفة الغيب، إلى أن
هذه العلاقة يمكن أن تمدنا بقدرات باهرةٌ لم نكن نملكها من قبل، وتفتح أمامنا
آفاقًا لم تكن مفتوحة.
ومما
لا ريب فيه أن الإنسان عندما بدأ الاهتمام بالبحث العلمي، واكتشف أن مخلوقات الله
جميعًا تخضع لسنن ثابتة مطردة لا تتخلف، قد اكتسب من خلال ذلك رؤية جديدة للعالم،
الذي يعيش فيه، فراح على ضوء رؤيته الجديدة هذه، يتعامل مع الكون تعاملاً أكثر
إيجابية وفعالية، إذ أمدته معرفته بسنن الله بقدرات إضافية، أعانت على التنبؤ
بوجود ظواهر ومخلوقات ، لم يكن يعلم عن وجودها شيئًا من قبل.. ولعل خير مثال على
هذا ما حدث مع العالم الروسي الشهير "مندلييف"(1)
الذي وضع الجدول الدوري للعناصر الكيميائية عام 1869م.. فقد لاحظ هذا العالم أن
ذرات العناصر التي كانت معروفة في زمانه تتركب وفق نظام، أو سنة معينة، إذ يتعقد
تركيبها بالتدريج واحدًا بعد الآخر، فقد وجد مثلاً أن أبسط العناصر هو "الهيدروجين"
وتتركب ذرته من نواة فيها بروتون واحد ونترون واحد، ويدور حولها الكترون واحد، ثم
يأتي العنصر التالي وهو "الهيليوم"
وفي نواته بروتونان ونترونان يدور حولها الكترونان.. وهكذا يزداد تركيب العناصر
تعقيدًا واحدًا بعد الآخر إلى نهاية الجدول، وفق سنة مطردة تدل على النظام البديع
الذي ركبت الذرات على أساسه.
وقد
درس مندلييف العناصر الكيميائية التي كانت معروفة في زمانه، ثم رتبها في جدول بحسب
تركيبها الذري، من الأبسط إلى الأكثر تعقيدًا، فلاحظ وجود خانات في الجدول ظلت
فارغة، ولما كان مندلييف واثقًا من وجود قانون صارم (أو سنة) يحكم تركيب هذه
العناصر وفق نظام مطرد، فقد استدل من هذه الخانات الفارغة على وجود عناصر في
الطبيعة، لم تكتشف بعد، وبعد دراسة عميقة، وبحث شاق استطاع مندلييف، أن يقدر بعض
صفات العناصر المغيبة، وقام بوضع تقرير مفصل عنها ذكر فيه خصائصها، التي تنبأ بها
بناء على موقعها من الجدول.
وبالفعل
لم يمض وقت طويل حتى جاءت الاكتشافات، فأكدت صدق ماتنبأ به مندلييف، ففي عام 1875م
اكتشف عالم فرنسي أحد العناصر التي تنبأ مندلييف بوجودها في الطبيعة، وأطلق عليه
اسم "غاليوم"
نسبة إلى بلاد الغال حيث اكتشف هذا العنصر، وفي عام 1879م اكتشف عالم سويدي عنصرًا
آخر من تلك العناصر، أطلق عليه اسم "سكانديوم"
وبعدها اكتشف عالم ألماني العنصر الثالث، عام 1887م وأطلق عليه اسم "جرمانيوم"
نسبة إلى ألمانيا.. وكانت خصائص هذه العناصر المكتشفة مطابقة للخصائص التي تنبأ
بها مندلييف إلى درجة تبعث على الدهشة!
وبمثل
هذا الفهم لطبيعة السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق، يمكن أن يكتسب الإنسان
القدرة على التنبؤ ببعض ما سوف يجيء به المستقبل، ومن هذا المنطلق راح علماء
الاستشراف المستقبلي يحدثوننا في ثقة تامة عن الغد وكأنهم يرونه عيانًا .. ومن ذلك
مثلاً "أن علماء الفلك يتنبأون بأن الليل
والنهار لن يظلا على ما هما عليه اليوم بعد مرور خمسة آلاف مليون سنة مثلاً، فهم
يتنبأون أن اليوم بعد هذا العمر الطويل لن يكون 24 ساعة بحساباتنا الحالية، بل
سيصير 36 ساعة، وهذه الحسابات لا تأتي هكذا اعتباطاً، لأن العوامل الكثيرة التي
تتسلط على أرضنا تؤدي إلى إبطاء دورانها حول نفسها، وإبطاء الحركة ينعكس على إبطاء
الزمن، بحيث يؤدي ذلك إلى جعل يومنا الحاضر أقصر من غدنا بحوالي 000,000,25/ ثانية
أي 25 جزءاً من ألف جزء من الثانية.. ويتنبأ العلماء كذلك بحصول أطول كسوف للشمس
(سيستمر لمدة سبع دقائق و 28 ثانية) وذلك يوم 16 تمور (يوليو) عام 2186م أي بعد
حوالي 196 سنة (أطال الله في أعماركم)(2) وكلنا نذكر دون ريب المذنَّب
الشهير "هالي"
الذي ظهر في سمائنا يوم 9 شباط (فبراير) من عام 1986م في تمام الساعة التاسعة
والنصف، والذي استعد العلماء لظهوره ورصده، قبل هذا التاريخ بسنوات عديدة، لأنهم
كانوا يعلمون موعد تشريفه!
وهناك
إلى جانب ما ذكرناه تنبؤات نظرية عديدة لا تقل غرابة وإثارة.. نذكر منها ما يلي:
*
يقول العالم "ريتشارد
سيلزر"(3):
"إن أهم التطورات التي ستفضي إليها
البحوث في العشرين سنة المقبلة، ستكون بلا شك العقاقير المضادة للفيروسات،
واللقاحات التي ستؤدي إلى انقراض الأمراض السارية من على وجه الأرض.. أما علم
الهندسة الوراثية، فسوف يساعد في القضاء على العاهات الوراثية، التي ضربت
المجتمعات منذ زمن بعيد.. يقيني أن التحكم بالتقنيات المختصة بمعاملة المورثات
البشرية ستخلف سلالات بشرية متفوقة، وأن هذه الحقيقة قد بدأت بشائرها اليوم(4).
وعلى المستوى الاجتماعي والنفسي والسياسي هناك تنبؤات أكثر غرابة وأبعد شأوًا،
يقول الأستاذ "تيموتي
ليرى"(5):
"..سوف نشهد في العقود المقبلة
اضمحلال السياسات الحزبية، فهذه من مخلفات العهود الإقطاعية، أو من بقايا العصر
الصناعي، في أحسن الأحوال، فمن الجنون أن يتم حكم أمريكا مثلاً – وهي ذلك المجتمع
التكنولوجي المعقد والتعددي – على هذه الصورة المتخلفة .. سوف نصبح كلنا مسؤولين
ومشاركين في الحكومة، وسنقوم بذلك بالتصويت الإلكتروني، ومن منازلنا الخاصة، ولن
نحتاج إلى مرشحين حزبيين مخاتلين، يلعبون على أوتار معتقداتنا وعواطفنا!!.
ويقول
أيضا: "في غضون العشرين سنة المقبلة ستطرح
في الأسواق مئات الأصناف المتطورة من "النواقل
العصبية" التي تسمح بتنشيط الدماغ، وتحسين
الأداء الفكري، وتعديل المشاعر والأحاسيس، بالكيفية التي تريد، وستظهر كذلك "أجهزة
الراديوات الدماغية"
القادرة على التقاط الموجات الكهربائية الصادرة عن الدماغ، وتعديل كيفيتها، بحيث
يمكن تسريع عملية التفكير أو إبطائها، وهذه الأجهزة سوف تعيننا على التفكير بوضوح،
وعلى التواصل فيما بيننا بصورة أفضل(6) وهكذا أخذت تظهر يوماً بعد يوم
تنبؤات جديدة لعلماء الاستشراف المستقبلي، لتضيء لنا صورة المستقبل شيئًا فشيئًا،
حتى كأننا نراه عيانًا..، وهي ليست مجرد تنبؤات للتصدير الإعلامي، بقصد التشويق
والإثارة، بل هي في الحقيقة تشكل الهيكل الأساسي للبرامج، التي تعتمد عليها شركات
الإنتاج والتصنيع، التي أصبحت بسبب تسارع إيقاع العصر، تهتم بالمستقبل، ربما أكثر
مما تهتم بالحاضر! وهذه التنبؤات ليست تنبؤات منجمين يضربون بالرمل، ولا شطحات
شعراء يهيمون وراء الخيال.. بل هي تنبؤات تقوم على أسس راسخة من المعرفة الصحيحة
بطبيعة السنن، التي فطر الله عليها أمور الخلق.. فهذه المعرفة هي التي أمدت
العلماء بقدرات عظيمة، استطاعوا استشراف آفاق المستقبل، واستنكاه ما سوف يقع فيه
من أحداث، وما سوف يطرأ عليه من تحولات بالغة الغرابة.
ومما
لاريب فيه أن مثل هذه التنؤات، ستعطي العلماء بعدًا جديدًا للحركة ومجالاً أرحب
للفكر النظري والتطبيقي، مما سيعينهم بإذن الله على وضع البرامج المستقبلية،
الكفيلة بمواجهة التغيرات القادمة، بصورة أكثر فعالية، وأقدر على الاستفادة من
عامل الوقت، وتجنبهم الأخطار القادمة، لأنهم يكونون قد أخذوا حذرهم تجاهها، بل قد
يستطيعون تسخير هذه الأخطار لصالحنا نحن البشر، بدل أن نكتوي بنارها!
وكما
قالوا "من عرف لغة قوم أمن شرهم"
وكذلك هي معرفتنا بالمستقبل، فهي تجعلنا نأمن شره، وتقلل من أخطائنا، وتجعلنا
نتعامل معه تعامل الصديق، الذي يعرف صديقه جيدًا.. ولا سبيل إلى هذه المعرفة
بالمستقبل غير السير في الأرض، واستكشاف السنن، التي فطر الله عليها أمور خلقه!
4
– الخير والشر
..
بَيّنا في فصل سابق أن الله عز وجل خلق هذا الكون البديع، وبث فيه من المخلوقات
أنواعًا كثيرة لا تعد ولا تحصى.. وذكرنا أن هذا التنوع في الخلق، يستتبع وجود تنوع
مماثل في السنن التي تحكمه.. وقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه أن تكون هذه السنن
موافقة لطبيعة الأمانة، التي وكل الإنسان بها.. كما اقتضت حكمته أن يترتب على
الأخذ بهذه السنن نتائج خيّرة، إذا ما أخذ الإنسان بها على الوجه الذي بينه الشارع
الحكيم، وأما إن أخل الإنسان بهذا الشرط، فإن النتائج تنقلب شرًا والعياذ بالله..
ومن
هنا كان الحلال والحرام في شريعة الله، وكانت ضرورة إرسال الرسل إلى الناس لكي
يبينوا لهم طريقة الأخذ بالسنن، التي تعينهم على أداء الأمانة العظيمة، التي خلقوا
من أجلها.. وهذه من أعظم نعم الله على الخلق، فلو أنه تركهم يعشون في هذه الحياة
بلازاد، ولا مرشد، لتاهوا وضلوا.. ولكنه – بسبب من رحمته الواسعة – أرسل إليهم من
يرشدهم إلى الطريق، ويدلهم على كيفية التعامل مع هذه الحياة تعاملاً يثمر الخير
والصلاح!
*
ونضرب للأمر مثلاً..
فقد
قدر الله عز وجل لبقاء النوع الإنساني سنة تقوم على التقاء الرجل بالمرأة، وغرس في
كل من الجنسين ميلاً وشوقًا وتعلقًا بالآخر، حتى تفعل هذه السنة فعلها، وتحقق
الهدف المنشود منها.. ولكن الله عز وجل لم يدع هذه السنة رهن الميل الجنسي وحده،
بل جعل لها شروطاً عديدة، لابد من مراعاتها، حتى تؤدي السنة وظيفتها على الوجه
الصحيح، وحتى تعود بالخير على الزوجين والأولاد، الذين يأتون ثمرات لهذه العلاقة
بين الرجل والمرأة.. ونحن لانريد أن ندخل في الحديث عن كل الشروط التي اشترطها
الشارع الحكيم للعلاقة الزوجية، فهي كثيرة، ولكننا سنكتفي بالوقوف عند الشروط
الغريزية (الفسيولوجية) لكي نبين بعد ذلك ما ينتج عن الإخلال بهذه الشروط التي
منها:
-
ألا تكون الزوجة من المحرمات، كالأخت، وبنت الأخ وبنت الأخت..
-
ألا ترتبط المرأة – في وقت واحد – بأكثر من زوج واحد.
-
فإن أرادت الزواج بآخر، لوفاة الأول أو لطلاقها منه، فلابد لها من الانتظار فترة
(عدة) قبل أن ترتبط بالآخر.
-
فإن أراد زوجها أن يواقعها فلا يحل له أن يواقعها إلا في طُهر.
- ولا يحل له أن يأتيها إلا من حيث أمر
الله.
وهكذا
نجد أن الأحكام الفرعية، بيَّنت مجموعة من الشروط الكفيلة – بإذن الله – بوقاية
الزوجين من الأشرار والأمراض، التي تنشأ عادة من العلاقات الجنسية المحرمة، والتي
أقلها الأمراض الجنسية الفتاكة، التي يلاحظ تفشيها بين الزناة خاصة.
*
مثال آخر..
ونذكر
أن الإشعاع الذري الذي اكتشفت قوانينه وطبيعته في مطلع هذا القرن، أصبح خاضعًا
الآن للتسخير من قبل العلماء.. وقد وجدنا أن هؤلاء قد سخروه تارة في الخير، وذلك
حين استخدموه في الطب لتشخيص بعض الأمراض، وعلاج بعضها الآخر.. وحين استخدموه في
توليد الطاقة الكهربائية، وفي إدارة المصانع وتشغيلها، وفي دفع السفن والغواصات،
وهذه كلها أغراض نبيلة خيرة..
إلا
أن علماء آخرين استخدموا الإشعاع ذاته في الشر، فوضعوه في قنابل ذرية دمرت على
الناس مدنهم وحضارتهم، وما نكازاكي وهيروشيما عنا ببعيد!
وهذا
يعني أن سنة الإشعاع نفسها قد سخرها الإنسان تارة في الخير.. وتارة في الشر..
*
ومثال ثالث..
فقد
خلق الله العناصر الكيميائية، وجعل في كل منها صفات محددة، باتت معلومة للعلماء،
وقد استطاع هؤلاء بما اهتدوا إليه من سنن الكيمياء أن يركبوا مركبات عديدة جدًا من
تلك العناصر، ويكفي أن نذكر أننا يمكن أن نحصل من تلك العناصر على أدوية نافعة
تدفع عنا آلام المرض وأضراره.. وهذه غاية طيبة خيرة .. كما يمكننا أن نصنع من
العناصر ذاتها سمومًا ومخدرات تسبب لنا شتى أنواع الضرر والأذى.. وربما الموت
والهلاك..
*
وأحسب أنه ظهر لنا من خلال هذه الأمثلة أننا قادرون بمشيئة الله على تسخير السنن
الربانية في الخير، أو في الشر، فنحن أمام هذه السنن واقعون بين خيارين كما قال
تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن﴾ (البلد 10)، فإما أن نوجه هذه
السنن نحو الخير، وعندئذ نفوز وننجو، ونحقق الخير، الذي نصبو إليه.. وإما أن
نوجهها نحو الشر.. وحينئذ .. لا نلومن إلا أنفسنا، لأن الخسارة ستكون نصيبنا لا
محالة!!
* * *
وثمة
أمر آخر له صلة بحديثنا عن الخير والشر، وعلاقتهما بسنة الله في الخلق، فقد سبق أن
قلنا عند استعراض صفة الاطراد في السنن: إن السنن تمضي نحو غاياتها المقدرة، وتقع
نتائجها كالقدر المحتوم، كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع التي تحول دون
تحقيقها، فهي من هذه الوجهة مثل أصيص الزهور، الذي يهوى من شرفة عالية، فبعد أن
يبدأ الأصيص رحلة سقوطه، فإنه دون ريب سيمضي فيها حتى النهاية، ولن يتوقف إلا أن
يرتطم بالأرض، أو بجسم آخر ينهي رحلة سقوطه.. وكذلك هي سنن الله في الخلق، فهي
تمضي حتى النهاية كلما توافرت شروطها.. وكما أن أصيص الزهور حين يهوى لا يميز بين
أن يسقط على الأرض، أو يسقط على رأس طفل برئ، أو على رأس لص محتال، أو على رأس
امرأة حامل.. فكذلك سنن الله حين تتوفر شروطها فإن نتائجها قد تصيب البرئ أو
المذنب من غير تمييز.. وهذه الحقيقة تضع الإنسان وجهًا لوجه أمام مسؤوليته في
الاختيار، فما دام أنه حرفي تسخير السنن وتوجيهها نحو الخير أو الشر، فإن عليه أن
يتحرى في اختياره، خشية أن يرتكب الخطأ القاتل، فيوجه سنة نحو الشر، بينما كان
يريد أن يوجهها نحو الخير!
5
– الدعاء
..
ليس الدعاء مجرد ألفاظ تجري على لسان الإنسان، بينما أفعاله تكذب ما يقول: "عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الله طيب لايقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين.. ثم ذكر
الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يارب يارب. وطعمه حرام، ومشربه
حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستحاب له؟"(7)
وإنما الدعاء جهد واعٍ ومسؤولية.
*
فهو جهد واعٍ لأنه – كما أسلفنا – ليس مجرد ألفاظ تقال، بل هو موقف نفسي متميز،
يتطلب من المرء أن ينتقل من موقفه السلبي، الذي كان عليه حين ارتكب الخطأ، إلى
موقف جديد ملؤه العزم والتصميم، على تجاوز الخطأ، والعودة إلى الحق!
*
والدعاء مسؤولية.. لأن العبد منذ اللحظة التي يتوجه فيها إلى ربه بالدعاء، يصبح
مسؤولاً عن موقفه، هذا، الذي يتمضن عهدًا مع الله، ألا يعود إلى ما كان عليه من
سلوك، وما ارتكبه من ذنب.. فإن عاد كان كالمستهزئ بربه، وكان عهده مع الله حجة
عليه!
وكما
يكون الدعاء من العبد رغبة في محو ذنب، أو تجاوز زلة، فكذلك قد يكون الدعاء طمعًا
في تحصيل نفع، أو تحقيق مطلب، وهو أمر مشروع دون ريب، إلا أن له شروطاً من أهمها
ألا يخالف الدعاء معلومًا من الدين بالضرورة، وألا يبتغي مخالفة سنة من سنن الله
في الخلق.. فمثل هذا الدعاء غير قابل للإجابة أصلاً، فليس للإنسان مثلاً أن يدعو
الله أن يسقط عنه أمراً معلومًا من الدين بالضرورة، كأن يسأل الله إعفاءه من تكليف
شرعي، كالصلاة أو الزكاة أو غيرها.. وليس للإنسان أن يدعو الله ليبطل سنة من السنن
التي فطر عليها أمور خلقه.. وما ظنك مثلاً بإنسان يلقي بنفسه من شاهق، وهو يرفع
كفيه إلى السماء ضارعًا: "ياربّ
أبطل سنة الجاذبية الأرضية"
هل يستجاب له؟ وكذلك هي حال الذين يتجاهلون سنن الله، ويحسبون أن مجرد الدعاء
سيشفع لهم عند بارئهم، متناسين أو متجاهلين التوجيه الرباني الصريح في هذه المسألة
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم وَلا أَمانيِّ أَهْلِ الكتابِ مَنْ يَعْمَلْ سواءً
يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ له مَنْ دونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصيرًا﴾
(النساء 123) فالمسألة ليست مجرد أدعية ولا أماني، وإنما عمل أو لا عمل، لأن العمل
هو مناط النتائج، فإن كان العمل متوافقًا وسنن الله كان مجديًا.. وأما إن كان
مخالفًا للسنن، فإنه لايجدي أبدًا؛ بل قد تنجم عنه نتائج وخيمة!
*
إذن .. أين هو موضع الدعاء من حركة الإنسان وعمله.؟
لاريب
أن للدعاء وظيفة عظيمة الأهمية في حياتنا، ودليل ذلك تلك الآيات الكثيرة والأحاديث
التي تحثنا جميعها على التضرع لله، وطلب المعونة منه.. ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم﴾ (غافر 60)، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعي إذا دَعَانِ﴾ (البقرة 186)،
(الدُّعاءُ مُخُّ العِبادة)(8).. ولكن ليس معنى هذا أن يتوقف كل نشاط
الإنسان على الدعاء وحده.. فللدعاء مواضع يجدي فيها بإذن الله، ومواضع لا جدوى
للدعاء فيها كما سبق أن بينا.. ويكفي أن نشير إلى القاعدة العريضة التي ترتكز
عليها الأعمال الناجحة، وهي أن يستكمل الإنسان الشروط، التي يعتقد أنها لازمة
للعمل، الذي يزمع القيام به، ثم يقبل على العمل متوكلاً على الله، سائلاً إيّاه
التوفيق والرشاد.
وأما
الإقدام على العمل من غير توفير تلك الشروط، فإنه يعد إخلالاً بالقيام بمهمة
الاستخلاف التي ناطها الله بنا.. لأن من شروط القيام بهذه المهمة أن نأخذ بالأسباب
أولاً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
للذي ترك دابته سائبة، وادعى أنه متوكل على الله في الحفاظ عليها: (اعْقِلْها
وَتَوَكَّل) اعقلها.. خذ بأسباب حمايتها وحفظها.. ثم توكل على الله.
وهكذا
يجب أن يكون سلوكنا في هذه الحياة.. نأخذ بالأسباب، ونهيئ الظروف، ونراعي الشروط..
ثم تبقى قلوبنا معلقة بالله، ضارعة إليه أن يسدد خطواتنا، وأن يلهمنا الرشاد، وأن
يهدينا إلى السبل، التي تعيننا على إنجاز أعمالنا على أحسن ما نحب ونشتهي.. وعندئذ
يجدي الدعاء بإذن الله.
* * *
الهوامش:
(1)
ديمتري
ايفانوفيتش مندلييف (1834-1907م).
(2)
التنبؤ
العلمي ومستقبل الإنسان – الدكتور عبد المحسن صالح – ص 23-26 بتصرف.
(3)
مؤلف
وأستاذ للجراحة في كلية بال الطبية.
(4)
مجلة
الصفر 16/87.
(5)
رئيس
شركة فيوتك سوفت واير (الأمريكية).
(6)
المصدر
السابق.
(7)
رواه
مسلم.
(8)
رواه
الترمذي عن أنس كما في "كشف الخفاء" 1/403.
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ =
نوفمبر–ديسمبر 2008م ،
العـدد : 11-12 ، السنـة : 32